واحد من أشهر وأكثر وأهم الشخصيات العامة المثيرة للجدل. على امتداد عمره الطويل، - أمد الله في عمره - كان دائما مثيراً للعواصف والزوابع من حوله بآرائه وأفكاره واجتهاداته، و.. شطحاته أيضا!
وحتى في الأيام القليلة الماضية التي شهدت بعض الأقاويل عنه وعن حياته وعزلته.. وعن اتصاله بالجان!!! بل وصل الأمر إلى حد ترديد الشائعات الكاذبة عن تركه للإسلام واعتناقه للمسيحية!!!
د."مصطفى محمود" واحد من أبرز مفكري العصر الذين شغلوا الساحة الفكرية والثقافية على مدار نصف قرن، بكتاباته الجريئة التي تحرك مياه الواقع الراكدة.
ارتبط اسم الدكتور "مصطفى محمود" في أذهان العامة بأعماله الخيرية، والمستشفى الشهير الذي يحتل موقعا متميزا في أحد أرقى الأحياء بالجيزة وهو حي المهندسين الغني عن التعريف. فقد قام الدكتور "مصطفى محمود" بإنشاء مسجد في القاهرة باسمه هو "مسجد مصطفى محمود" عام 1979، ويتبع له "جمعية مسجد محمود" والتي تضم "مستشفى محمود" و"مركز محمود للعيون"، ومراكز طبية أخرى تقدم خدماتها لقطاع عريض من الناس.
ولا يكاد يوجد في مصر أو الدول العربية أحدٌ إلا أشاد بمجهوداته الخيرية وسعيه المتواصل لخدمة الفقراء والمعوزين ومتوسطي الحال.
وارتبط اسمه كذلك بالبرنامج الظاهرة (العلم والإيمان) الذي امتد حضوره ووهجه وانتشاره لسنوات طويلة خلال الثمانينات.
بحر متلاطم.. ورياح هوجاء:
عندما اعتنق الماركسية وآمن بالمادية، وشك في الأديان، وأعلن عن ذلك في كتابه (الله والإنسان)، قامت الدنيا ولم تقعد، وكان نتيجةً لذلك أن صدر قرار بمصادرة الكتاب ومنع تداوله في الأسواق سنة 1951، وتقديمه للمحاكمة!!
ودخل في مجادلات حادة وعنيفة عكست مدى قدرته الرهيبة على مناقشة كل فكرة ومجادلة كل رأي وعدم التسليم بالأشياء كما هي وكما تبدو عليه، واستمر على حالته هذه تتجاذبه الأنواء وتتقاذفه العواصف والرياح، إلى أن استقر أخيراً ورست سفينته الحائرة على شاطئ الإيمان، وسجل نهاية هذه الرحلة المنهكة في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان).
وتتابعت كتاباته ومقالاته العديدة تترى وتتوالى بغزارة وتدفق غير عاديين في الصحف والمجلات والدوريات المختلفة، فكان يكتب وينشر في مجلات (الرسالة) التي نشر فيها أول قصة له، و(النداء) و(التحرير) و(صباح الخير) و(روزاليوسف) و(الشباب) وفي (الأهرام) و(الأخبار)،... وغيرها.
ولم تنته معاركه ومجادلاته عند حد مسألة شكه ووصوله إلى الإيمان بل تجاوزتها إلى إثارته للعديد من المناقشات والمعارك حول بعض اجتهاداته الدينية، ويكفي أن نشير فقط إلى معركتي كتاب (محاولة لفهم عصري للقرآن)، وكتاب (الشفاعة) اللذين دار حولهما الكثير من الجدل الساخن والنقاش الحاد اللذين وصلا لأبعد مدى باتهام البعض له بمروقه عن الدين، وخروجه من الملة!!
البدايات:
هو المفكر والكاتب والأديب والفيلسوف والعالم والطبيب المصري الشهير الدكتور "مصطفى كمال محمود حسين" الشهير بـ" د.مصطفى محمود" الذي ولد في 25 ديسمبر سنة 1921م، في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، التي نزح منها منتقلا إلى طنطا عاصمة محافظة الغربية، والتحق بالمدرسة الأولية بها، وفيها تعلم القراءة والكتابة وحفظ سوراً من القرآن الكريم، وكان لميلاده ونشأته في مدينة طنطا محط رحال مريدي "السيد البدوي" ومحبيه الأثر الأكبر في عشقه وتشبعه بالأجواء الروحانية والأطياف الصوفية التى ستتجلى فيما بعد بوضوح في كتبه وأبحاثه ومقالاته.
يقول مصطفى محمود عن تلك الفترة وتأثيرها عليه:
(.. الحياة في طنطا في جوار السيد البدوي، وحضور حلقات الذكر والمولد والناي ومذاق القراقيش وابتهالات المتصوفة والدراويش.. كان لها أثر في تكويني الفني والنفسي)
و في أثناء دراسته بالمدرسة الابتدائية بطنطا مال إلى العلوم الطبيعية والكيمياء والفلك، وعندما انتقل إلى المدرسة الثانوية زاد حبه لهذه المواد وشغفه بها، حتى إنه أعد في بيته ما يشبه المعمل الصغير كان يمارس فيه تجاربه العلمية الصغيرة.
التحق بكلية الطب عام 1946، وتخرج فيها عام 1952، وأمضى فترة الامتياز، وتخصص في أمراض الصدر، وظل يمارس مهنته الطبية حتى عام 1960، وهو العام الذي تفرغ فيه للبحث والكتابة بشكل كامل.
تزوج مصطفى محمود عام 1961، وانتهى هذا الزواج عام 1973، وأسفر عن ولديه "أدهم" و"أمل". ثم تزوج مرة ثانية عام 1983، ولكنه لم يستمر أيضا كسابقه وانتهى بالطلاق عام 1987.
العلم والإيمان:
يعد من الأسباب الأساسية لانتشار وشهرة الدكتور "مصطفى محمود" في مصر والعالمين العربي والإسلامي برنامجه الناجح الذي ذاع صيته وانتشر في الآفاق انتشار النار في الهشيم، والذي كان ينتظره الملايين في كل أنحاء العالمين العربي والإسلامي، وينتظره الناس بشغف ولهفة كل أسبوع، يستوي في ذلك الشغف وتلك اللهفة الرجلُ والمرأةُ والطفلُ والشيخُ الكبير... الكل كان ينتظر الحلقة الأسبوعية من
برنامجه الرائع "العلم والإيمان" الذي كان يُسجل ويُذاع كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع
على القناة الأولى بعد نشرة التاسعة، في فترة الثمانينات من القرن المنقضي.
قدم الدكتور مصطفى محمود 400 حلقة كاملة من هذا البرنامج الذي أعيدت إذاعة معظم حلقاته بعد ذلك على العديد من القنوات الأرضية والفضائية، ومازال إلى الآن يحظى بنسبة مشاهدة كبيرة يندر أن تتحقق لغيره من البرامج.
جهد ثقافي عملاق:
أثرى الدكتور "مصطفى محمود" المكتبة العربية بأكثرمن ثمانين كتاباً تتنوع ما بين الكتب العلمية والدراسات الفلسفية والإبداعات الأدبية والمقالات السياسية والاجتماعية، والنظرات الدينية والفكرية والرحلات والتصوف.
فهو من القلائل الذين حاولوا في كتاباتهم العلمية أن ينحوا نحو التبسيط في عرض أعقد النظريات والمسائل العلمية عن طريق الشرح المبسط وضرب الأمثلة الشارحة الموضحة، يتضح هذا في كتبه العلمية العديدة، مثل :(أينشتين والنسبية).
وتمثل إسهامه الأدبي في إبداعاته العديدة ما بين رواية، وقصة قصيرة، وأدب رحلات، ويعد الدكتور" مصطفى محمود" من الكتاب البارزين للقصة القصيرة من جيل الوسط، وقد كتب العديد من المجموعات القصصية المتميزة مثل: (عنبر7)، و(شلة الأنس)، و(رائحة الدم)، و(أكل عيش)، وغيرها.
كذلك يعد "مصطفى محمود" من أهم كتاب الرواية وبالأخص رواية (الخيال العلمي) التي ساهم بالكتابة فيها بأعمال مميزة، - نذكر منها رواياته الشهيرة (رجل تحت الصفر)، (المستحيل)، (الأفيون) - ، تعد علامات في رواية الخيال العلمي المكتوبة باللغة العربية شأنه في ذلك شأن أعظم كتاب رواية الخيال العلمي في مصر، مثل "نهاد شريف"، و"صبري موسى"، و"رءوف وصفي".
ومن الجوانب المهمة التي يجدر التنويه بها أن الدكتور" مصطفى محمود" من أوائل من اتخذوا في كتابتهم للرواية منحى تجريبياً بارتياده طريق تيار الوعي (وهو الذي لا يتخذ في كتابة الرواية، مع "محمد عوض عبد العال"، و"عبد الفتاح رزق"، و"مجيد طوبيا" وغيرهم ممن سلكوا هذا الطريق من جيل الستينات ومن تلاهم.
أما عن أدب الرحلات فيكفي أن نشير إلى أنه من المعدودين من كتاب أدب الرحلات في مصر والعالم العربي، ووضع اسمه ضمن البارزين في هذا الفن، مع "محمود تيمور"، و"حسين فوزي" و"أنيس منصور"، و"عبدالله الطوخي"، و"عبد الفتاح رزق"، و"خيري شلبي"، وغيرهم. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية في أدب الرحلات عام 1975، عن كتابه (مغامرة في الصحراء).
وعن كتاباته في الفكر الإسلامي وآرائه الجريئة في بعض القضايا الشائكة والحساسة فحدث ولا حرج! فهو صاحب الكتب والبحوث التي أثارت من المعارك وردود الافعال ما ظل يشغل الساحة الفكرية والدينية لفترات طويلة، فقد اشتبك – فكرياً – مع العديد من أعلام الفكر والدين في موضوعات مازالت إلى الآن محل خلاف.
لعل من أشهر هذه المعارك معركته مع الدكتورة "عائشة عبد الرحمن" (بنت الشاطئ) حول كتاب (القرآن محاولة لفهم عصري)، فقد كانت من أعنف المعارك الفكرية حول الإعجاز العلمي للقرآن، ودارت هذه المعركة الفكرية في أوائل السبعينات على صفحات جريدة الأهرام وتحديداً أهرام الجمعة، وعلى مدار شهرين كاملين (مارس وإبريل)، وكانت الدكتورة "عائشة عبد الرحمن" ترد على مقالات مصطفى محمود التي كان ينشرها آنذاك على صفحات مجلة (صباح الخير).
ومعركة أخرى دارت أحداثها منذ عدة سنوات عندما أصدر كتابه (الشفاعة) وثارت حينها زوابع وعواصف من قبل رجال الدين والفقهاء الذين أنكروا عليه ما ذهب إليه من آراء وأفكار، وكُتِبَ في الرد عليه العديدُ من الكتب والمقالات في الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية.
وكان لمصطفى محمود دور بارز في الكشف عن حقيقة الأفكار والمعتقدات البهائية في كتابه – الذي يعد من أوائل الكتب التي تناولت هذا الموضوع – (حقيقة البهائية).
وتميز أسلوب "مصطفى محمود" بالبساطة والسلاسة المتناهية، التي تشد القارئ وتجعله منجذبا لموضوعه الذي يقرأه، هذا بالإضافة إلى قدرته الخارقة على تطويع اللغة تطويعاً عجيباً بحيث تكون في النهاية سلسة مطواعة يشكلها ويشكل بها ما أراد وما يريد.
ويطول بنا الكلام ويتشعب لو حاولنا أن نستقصي ونتتبع مظاهر إنتاج الرجل، وتعدد مشاربه وإسهاماته، مما يخرج بنا عن الغاية التعريفية التي نبتغيها.
0 التعليقات لموضوع "الدكتور مصطفى محمود من الشك الى الايمان"
الابتسامات الابتسامات