رحل عن عالمنا في الساعات الأولى من صباح يوم السبت الماضي واحد من القلائل الذين أخضعوا كل شيء لحكم المنطق، هو الدكتور مصطفى محمود جامع العلم والإيمان سوياً، مات متأثراً بمرضه بالسرطان وشُيّع جثمانه يوم السبت من مسجده مسجد مصطفى محمود الشهير بالمهندسين.
وُلد مصطفى محمود عام 1921 بشبين الكوم بمحافظة المنوفية وتخرّج في كلية الطب عام 1953، وكان له تجربتا زواج نتج عنهما ابنه أدهم وابنته أمل، ولكن الطلاق كان مصير الزيجتين في النهاية.
ربما قليلون هم الذين يعرفون أن مصطفى محمود لم يكن مجرد كاتب وباحث وجامع بين العلم والإيمان ومفكر ديني وعلمي، بل كان إنساناً، كان له من الأعمال الخيرية ما لا يضع خيارا أمام الجميع سوى رفع القبعات له تقديرا واحتراما. مسجد مصطفى محمود الشهير بالمهندسين يعود الفضل في بنائه والإنفاق عليه بعد الله سبحانه وتعالى إلى العالم مصطفى محمود بفضل عائدات الكتب التي بلغت أرقاما خيالية، ثم تحول شيئا فشيئا إلى جمعية خيرية متكاملة تدعم طبقة الفقراء فضلا عن وجود مستوصف في الجمعية ذاتها يعالج المرضى بأسعار رمزية.
الأيام الأخيرة لمصطفى محمود -عفوا.. الأعوام الأخيرة- كانت هي الأسوأ على الإطلاق حيث تحالف فيها المرض مع فقدان الذاكرة مع تجاهل الإعلام جميعا عليه ولم يترك أمامه خيارا سوى أن يتخلى عن روحه لبارئها بعد صراع مرير مع المرض استمر خمس سنوات وانتهى أخيرا يوم السبت الماضي.
دراسة د. مصطفى محمود لمهنة الطب لم تمنعه من أن يكون أديبا وعالما في الوقت ذاته فاتحذ من العلم بوابة للوصول للأدب فكان الأديب العالم.
مصطفى محمود كان له ما يزيد عن 88 كتابا في مختلف العلوم والفروع كان أبرزها على الإطلاق "حوار مع صديقي الملحد" و"السر الأعظم" و"من أمريكا إلى الشاطئ الآخر" و"العنكبوت" و"الإسلام ما هو" و"رأيت الله" و"رحلتي من الشك إلى الإيمان".
تميز مصطفى محمود بقدرة بالغة على توصيل المعلومة بشكل سهل نأى به عن الوقوع في مستنقع العامية المسفّة، وراوغ بفضله أيضا متاهات بلاغة الصفوة المعقدة، وربما هذا ما برّر اتساع قاعدة قارئيه بشكل ربما لم يسبقه فيه كثيرون.
العلم كان له النصيب الأوفر في كتابات مصطفى محمود، فكان دائم التساؤل عن أصل الكون والوجود، وماهية الله، طرق بقدميه أماكن لم يجرؤ أن يطأها بشر من قبل، فحكى تجربته مع الإلحاد وعودته من جديد إلى الإيمان بشكل أكثر ثباتا وإيمانا وذلك كله لأنه لم يكف عن طرح التساؤلات، وربما هذا ما جعل الشائعات تجد فيه مادة خصبة كي تنشأ وتترعرع، فقيل عنه مرة علماني وكافر ومرة أخرى أنه اعتنق المسيحية سرا ويأبى أن يقول.
شخصية مصطفى محمود العالم ظهرت لجموع الناس بالأساس بفضل حلقات برنامجه العلم والإيمان منذ السبعينيات، والتي مثّلت الانطلاقة الحقيقية لمصطفى محمود التي عرّفت الناس بوجود ذاك العالم والمفكر والفيلسوف ورجل الدين، ذاك الرجل الذي نجح في ربط العلم بالإيمان، ذاك الرجل الذي رفض أن يكون في الإسلام أسئلة محظور توجيهها، ذلك الرجل الذي أكد على أن الدين الإسلامي هو أصل كل العلوم، فمنه تبدأ وإليه تنتهي وكله في علم الله، وهكذا نجح في تفسير بعض آيات القرآن وبعض العبارات التي كانت مستخدمة بشكل علمي يؤكد على ما يجيء به العلم ولا ينفيه.
أما مصطفى محمود رجل الدين، فقد كان دائم الصراع مع المشاكل بسبب تفكيره الذي أثار في كثير من الأحيان غضب رجال الأزهر الذين لم يجدوا أي حرج في أن يطلبوا من الرئيس جمال عبد الناصر وقتها أن يحاكمه بشكل بعلني عقابا له على كتاب "الله والإنسان"، لكن القاضي اكتفى بمصادرة الكتاب فحسب، وإن أمر الرئيس السادات فيما بعد بإعادة طبعه من جديد وتداوله في الأسواق.
البعض الآخر يعتقد أن مصطفى محمود هو المؤسس غير المعلن لفكرة الإسلام السياسي بصفة عامة، وأن كثيرا من القيادات الدينية التي تشارك في العمل السياسي في الوقت الحالي اعتمدت بشكل أساسي على كتابات هذا الرجل وتفسيراته الحياتية للقرآن الكريم.
انتهت حياة هذا الرجل ولم تَنْتَهِ سيرته، مات جسده وبُعِثت أعماله، غابت صورته وظهرت أفكاره حية يشهد بها رجالُ أدبٍ أعجبهم علمه، ورجالُ علمٍ أذهلهم أدبه ورجالُ دينٍ أسرهم جمْعُه بين الأدب والعلم...
0 التعليقات لموضوع "وداعا مصطفى محمود نبذة عن حياة الدكتور"
الابتسامات الابتسامات